الحاجة الإنسانية للتواصل مع الآخرين تعادل الحاجة للأكل
والشرب والنوم . الإنسان محتاج للآخرين ليعيش معهم ، ليحدثهم ويحدثوه ، ليعبر عما
يجيش بصدره ويسمع منهم . هذا إذا كان
طبيعيا لا يعاني من التوحد .
لكي يتواصل الواحد
مع الآخرين من بني جنسه قد يتأتى له ذلك بالكلام أو الاستماع أو الكتابة والقراءة
. هذه هي المهارات الأساسية التي يعتمدها المرء في تواصله طيلة حياته في الحديث
اليومي ، والإذاعة والتلفزة ، والموسوعات والصحف والمجلات ، بل حتى اللافتات وشتى
أنواع الإشارات في الأزقة والدروب والشوارع . الدكاكين والمحلات التجارية أيضا تناديك
بلافتاتها وإعلاناتها.
في العصر الحالي عبرت أنترنت عن هذا المفهوم بأبلغ صورة - أتحدث عن حاجة البشر للاتصال - ، عبرت عنها بالانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي . والحق أن أحدنا يجد عناية خاصة
في صغره لتعلم الكلام ، وفي سنوات عمره الأولى يجد مساعدة كبيرة في تعلم الكتابة
والقراءة ، لكن الحقيقة الثابتة هي أن مهارة الاستماع في آخر السلم . لا نتعلم
غالبا في منازلنا أو مدارسنا مهارة الإنصات إلى الآخرين ومحاولة فهمهم .
في كل اتصال مع الوالدين أو الأبناء ، الإخوة أو الأصدقاء
، الأقربين والغرباء ، والخصوم والأعداء دائما نستخدم بعض هذه المهارات ، لكننا
قلما ننصت جيدا خصوصا مع من يخالفنا الرأي .
في حياتك اليومية قد تختلف مع أي منهم في الرأي ، لكن هل
تفكر بأنه ربما كان على صواب منذ البداية ؟ في كثير من المواقف والمجالس يحتد
النقاش في مسألة ما ، وينبري كل منا للدفاع عن وجهة نظره قبل أن يكلف نفسه عناء
التدقيق في فكرة محاوره وإمكانيتها .
هل أنت معي أم ضدي ؟
إذا كنت معي في رأيي سأقول ببساطة : كلامك منطقي ومعقول
، أنت على صواب ، أصبت الحقيقة ، هذا هو الواقع ، ... هذه أساليب أعبر لك فيها
بأنك محظوظ لأنك توافقني . أما حينما تخالفني
فسأقول لك : شيء غريب أن يصدر منك هذا الكلام ، هذا لا يقول به عاقل ، هل أنت تعني
ما تقول ؟
مئات التعابير نصدرها يوميا لنرسل للناس إشارات بأنهم
معنا أو ضدنا .
شخصيا ، قد أخالف الكثيرين في الرأي ، وهذه سنة في الكون
وطبيعة في البشر . لكن تلك الاختلافات تبدو لي شيئا مثيرا ، وإليك البيان ...
حينما تضع نظارة حمراء فأنت ترى الكون أحمر ، وتراه أخضر
لو كانت نظارتك خضراء . ترى ، كيف سترى الواقع بدون نظارة ؟ إن كنت تعتقد بأنك سترى
الواقع كما هو فإني أدعوك للتفكير مليا في اعتقادك ، لأن حياتنا تثبت عكس ذلك ،
فما أكثر الأشياء التي نختلف حولها ونحن نعتقد بأننا نرى الأمور على حقيقتها ...
هناك نظارات نضعها دون أن ندري ، وهي تحدد بشكل كبير كيف تبدو لنا الأمور ، لا ما
هي عليه حقيقة .
قد تمر أمام العديد من الأشخاص ، وكل واحد منهم يسترعيه
شيء محدد فيك ، فأولهم يهتم بشعرك ، والآخر ينظر إلى حذائك، والثالث سيميل إليك ،
والرابع سيكرهك مجانا . لما تحصل كل هذه البلبلة ؟
ربما كان الأول حلاقا ، والثاني إسكافيا أو بائع أحذية ،
والثالث بدوت له قريب الشبه بأحد معارفه المفضلين ، والرابع تُذكره بشخص أو تيار
مكروه لديه أو تجربة سيئة .... كل واحد منهم يضع نظارة تحدد أولوياته ومعايير
أحكامه ، ولكن من منهم يدرك بأنه يضع نظارة غير مرئية ؟
إن تجاربنا السابقة وتربيتنا وثقافتنا تشكل عاملا مهما
في أحكامنا ورؤيتنا ، كذلك يشكل الوقت عاملا مهما في توضيح الصورة وتغيير الموقف .
في العام الماضي قمنا بتجربة مثيرة بينت كيف أننا جميعا
ننظر إلى نفس المعطيات ، وتختلف زوايا أنظارنا بشكل عجيب . خلال تلك المحاضرة قسمت
الحاضرين إلى مجموعات وطالبتهم بأن يحددوا لي عدد المثلثات في الشكل السابق خلال
دقيقتين ، ويمكنك أنت أيضا أيها القارئ العزيز أن تضع جوابك معنا في التعليقات
أسفل التدوينة . كان اختلافهم شيئا مثيرا بالنسبة لي ، فكل فريق كان يؤكد بشدة على
صحة رؤيته . أضفت لهم دقيقتين أخريين فتغيرت مواقف أكثر المجموعات ..
هناك ملاحظة تبقى قناعة شخصية لدي ، هو أن الحقيقة
الثابتة التي لا تقبل شكا عندي هي ما كانت وحيا من عند الله ورسوله ، لأن
الوحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأما ما عدا ذلك فدعنا نختلف فيه
كما نشاء . وأما بالنسبة للشكل السابق فسأذكر لاحقا ما أعتقد بأنه صواب في نظري ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق