18 يناير 2013

يوميات في الصحراء - الجزء الثاني


هذه التدوينة بقلم السملالي لعروسي


بعد مدة التحق بنا رجلٌ، آثَرَ هو الآخرُ تتبع غُنيْماته على حبسها بين الجدران، كان شيخا كبيرا اشتعل رأسه شيبا، وكان قليل الكلام والحركة، فكنت أرمُقُه بين الفينة والأخرى بنظرات وكأني أريد النفاذ إلى باطنه لأعلمَ سبب تجشمه كل هذا العناء وقد بلغ من الكبر عِتيّا، لقد كانت الظروف صعبة ولم يكن يخففُ من وطئتِها إلا رؤية الغنم راتعةً في الخِصب.
كنا نَبِيتُ في العراء ثم نقوم في ظُلمة السَّحَر وقد بَلّ النّدى أغطيَتَنَا وفُرُشَنا في برْدٍ شديد يُجَمّد الأطراف ويُعيق المفاصل عن الحركة، فيسير الواحد منا بعُسر مادّاً يَدهُ ليلتقط تحت جُنْح الظلام أعوادًا من حطبٍ مُبتَلة، وهو لا يدري أتأتي يدُه على حية أم عقرب. وبعد محاولات لإشعال النار يبدأ الدخان بالارتفاع ثم تَعْقُبُه ألسنةُ لهبٍ تضيءُ المكان، ويَنفُذُ دفئُها من الجلدِ إلى الوجدان.
بعد أيام قليلة انتهى إلى علمنا أن عمي محمدا يسكن في مكان غير بعيد منا فبدأتُ أنا ومن كان معي من أسرتي بالاستعداد للانتقال لرفقته. ومحمد رجل أَسَنُّ، مُجتمِع الأَشُدّ، أوهَنَ الكِبرُ قوَّتَه وأَضعَفَ بَصرَه، عَارَك الحياةَ حتى بَرَى الدَّهرُ عَظْمَه وأَلانَ شِرَّته ونَقَضَ مِرَّته وأَلانَ عَريكَته، عَالي الهِمَّة عَزيز النَّفْسِ، ظَريف الطَّبْع لَطيف المَلَكَة، جوادٌ طَلْقُ اليَدَينِ، يُصْمِت بكلامِه ويَتَكلّمُ بِصَمْته. كنا ننطلق في الصباح الباكر من خيامنا لنرعى أغنامنا، فكان يسألني عما حولنا فأجيبه، إذْ كنتُ أرى ببصري أكثرَ ممّا يراهُ هو، ولكنه كان يرى ببصيرته ما لا أرى.
 أمضينا أشهرا في ذلك المكان تصبحُ أغنامُنا حُفَّلا فنستخرجُ ما جادَت به أضرُعُها من حليب، أمَّا أنا فكنت أتوجه صوب الدابة أفُكُّ رِباطَها وأضعُ سَرْجها لأحمل عليه زادنا. لم يكن الزادُ يتعدى في أكثر الأحيان شرابا من لبنِ الغنمِ وخبزاً وعُدةَ شايٍ لا مَحيدَ لراعي الغنم عنها، وخلال النهار نترقَّب وصولَنا لأي مكان تمكثُ فيه أغنامنا راتعةً، لنُشعِل على عجلٍ نارا فنعدّ بها الشاي. نبقى على ذلك الحال طول النهار، متنقلين من قرارة إلى قرارة ومن أجَمة إلى أخرى حتى يُدركنا الأصيلُ فنُوَلّيَ وجوهَ أغنامِنا شَطْرَ الخيام. وأما المساء فكان لسكان البادية فيه أَسْمار، يجتمعون في خيامهم على ضوء شمعة أو ما تيسر من غيرها، ويَلْتفّون حول كؤوسٍ قد وَلَّوْ أَمرَها لِمن يثقون في إجادته صنع الشاي.
استدار الزمان وعاد كهيئته قبل ارتحالنا، فذبُل الزَّهْر وقَلّ العُشب وشَحُب وجه الشجر، فبدأ القوم يتداولون الأمر حتى استقر رأيُهم على الارتحال إلى المكان الذي يسكنُ فيه عمي محمدُ، استغل أبي فرصة حصوله على إجازةٍ ليرافق أخاه الذي يكبره سنا في سَوْق الماشية، أبْكرا حاملين معهما زادهما وراء الغنم وتأخرتُ أنا وأمي وابن عمي الذي كان يقود السيارة للَمْلَمَة متاعنا، وبعد فراغنا سِرنا على أثرهم ثم تقدمناهم لنُعِدّ لهما الشاي والشراب. وفي المساء آوانا المبيت إلى قرارةٍ فكان ابن عمي يتطوع لحراسة الغنم بالليل.
في اليوم الموالي رفض عمي حمل زاده بحجة أن السيارة فيها كل شيء وهي لا تفارق القطيع، فسارا قبلنا وتأخرنا نحن بعدهم، كان ذلك اليوم مميزا، ففيه سنعبر شبحا نسميه "الذراع"، ولمن لا يعرفه فهو مقطع من الكثبان الرملية المتحركة يبلغ عرضه عدة كيلومترات ولا حد لطوله، يجتازه الماشي بعسر ولا تجتازه السيارة إلا إذا احترف سائقها. تقَفَّيْنا أثرهم حتى وصلنا إلى المكان الذي اتفقنا على أن نعبر منه جميعا، فرأينا آثارا لقطيعِ غنم ٍترافقه دابةٌ وآثاراً آدمية. عزمنا على العبور خلفهم متوجسين من الشبح الذي يظهر أمامنا، فأطبق الجميع في صمت فلا تسمع إلا محرك السيارة يُكابد لجرّ الحِمْل الثقيل.
بدا وكأن الأمور تسير على ما يرام، فطَفِق ابن عمي يلْتفّ بالسيارة حول الكثبان الكبيرة الهائلة، ويضطر في مرات إلى اجتيازها في حذر، حتى لاحت لنا الضفة الأخرى فتنفسنا الصعداء وزال أثر التقطيب الوجل من ملامحنا. ارتقينا بالسيارة مُرتَفَعا يُطِل على المكان كي يظهر لنا القطيع إن هم خرجوا من الكثبان... لبثنا مليا فإذا بشيء أسود يتحرك في السراب، سارعنا إليه فإذا هو راعٍ آخرُ قرر اجتياز نفسَ المكانِ في نفسِ الزمانِ. رجعنا إلى مكاننا ورجع التقطيب والوجل إلى ملامحنا. ماذا لو كانت الآثار التي رأيناها هي آثار هذا القطيع وليست آثار قطيعنا؟
ليست فكرة الرجوع مرة أخرى بالفكرة الصائبة، فليست كل مرة تسلم الجرة. قد يتأخر أبي وعمي لكن عبورهم أيسرُ من عبور السيارة المُثْقَلَة بحِملها. سِرْنا بمحاذاة الكثبان مسافة طويلة عسى أن نجد أثرا لهم، ثم بدا وكأن الأمر يستلزم الرجوع، فقد زالت الشمس من كبد السماء ولم يحمل الرجال معهم زادا. اخترقت السيارة الكثبان راجعة وقد أَلَمَّ بنا توترٌ قلَّلَ من كلامنا، كانت طريق الرجوع هذه المرة أعسر وكنا على وشك أن نعلق في الرمال مرات، إلى أن بدت الضفة الأخرى، وما كدنا نصل إليها حتى على صوت من داخل السيارة: "ها هو أثرهم!". ترجلنا نحقق من الآثار حتى تبيّن لنا أنها لهم، عدنا على عجل لنستقل السيارة ونقتفي آثارهم، لكن الطريق هذه المرة أصعب من أي وقت مضى. فبين الخوف من إضاعة أثرهم والخوف من سلوك طريق غير صالحة لعبور السيارة كان الجميع تحت ضغط شديد.
وللحديث بقية ...

ليست هناك تعليقات: