08 يناير 2013

وتعلمت دروسا



في حي الجنود نشأت ، وكانت أمامنا مدرسة يمتد سورها "يسد الأفق" . الآن يمكنني أن أتجاوزه من أقصاه إلى أقصاه في دقيقة أو اثنتين . جيراننا كانوا من بسطاء آخرين ، إلا أننا كنا أبسطهم .
حينما تجاوز عمري اثنتي عشرة سنة طلبت من والدتي أن تسمح لي ببيع الخبز للجيران صباحا فوافقت . حصلت على تمويل كبير قدره عشرة دراهم - أي ما يعادل دولارا واحدا في ذلك الزمان – ثم أخذت كيسا قديما يستوعب بضاعتي الثمينة .

كان يتوجب علي أن أستيقظ باكرا لأنطلق نحو فرن المدينة الوحيد حينها فرن "مانولو" ، وأعود بالخبز الساخن لأبيعه لربات البيوت أمام كل بيت حتى لا يتكلفوا عناء الذهاب إلى دكان الحي ، أو يكلفوا أبناءهن بالخروج من بطانياتهم الدافئة في جو بارد . كانت 
الزبونات متحمسات وبشوشات . قد يجمعن كل الصفات الحسنة إلا صفة واحدة : وهي دفع ثمن ما يأخذنه مني .
- في ما بعد يا ابن السملالي ، في ما بعد .

 كان البيع يتم بالدين ، وكنت أستحي من الوقوف على أبوابهن ، لذلك لم يأت اليوم الرابع إلا وكنت داخل بطانتي كبقية أبناء الحي ، لكنني مفلس . ولم يأت ذلك الـ " في ما بعد" أبدا ، وتعلمت دروسا لا يمكنني تعلمها من المدرسة في ذلك الزمان ، وهو أن التجارة تحتاج إلى رأس مال ، وأن الدين من أكبر الآفات على التاجر ، وتعلمت أن جاراتي البشوشات هن أسوأ المخلوقات على وجه الكرة الأرضية ، بعد القنبلة النووية طبعا.

كانت إحدى جاراتنا عائدة إلى بيتها ظهرا ، تحمل على ظهرها ابنها الصغير ، وكان لديها ابن أكبر منه لعله يبلغ ست سنوات اسمه فؤاد ، تركته في المنزل مع أبيه . قابلتها خارج الحي ، ولأني كنت أمتلك شعبية كاسحة فإنها ابتسمت لي وقالت :

- كيف حالك يا ابن السملالي ؟

- بخير.

فكرتُ برهة ، ثم استوقفتها و قلت:

- هل تعلمين ؟

اتسعت ابتسامتها وقالت :

- وكيف أعرف وأنت لم تخبرني ..

- فؤاد ...

زالت ابتسامتها في لمح البصر وسألتني بلهفة :

- ماذا حصل له ؟؟

- لا شيء ... لقد سقط من سطح منزلكم .

صرخت المسكينة :

- ناري .... ناري ... (يا ويلي ...)

فقدت المرأة المسكينة صوابها وأسرعت تريد الذهاب إلى بيتها من حيث أتيتُ أنا فقلت لها :

- إلى أين ؟

أجابتني بصوت متهدج :

- إلى البيت ...

فقلت لها بكل برود :

-  لا ... لا داعي لذلك ، لقد حملته سيارة الإسعاف .

انطلقت تجري في الإتجاه المعاكس صوب المستشفى فقلت لها :

- لا داعي لذلك .... فات الأوان ... لقد مات .

ذهبتُ إلى حال سبيلي ، ولم أعرف في أي اتجاه سارت بعد ذلك .

حينما حل المساء كانت خطوط كثيرة مختلفة الألوان تغطي جسدي رسمتها أمي عليه لما علمت بما فعلت .



ليست هناك تعليقات: