07 يناير 2013

التغيير ... وعصر المعلومات

     إذا لم تكن من سكان جنوب المغرب ، فلعلك لا تعلم بأن المعلومة لها معان أخرى .

المعلومة عند الصحراويين قد تكون من أسماء المرأة ، كما أنها صفة . فما يوصف بأنه معلوم يعني أنه : جدير بالثناء ، كريم ، نافع ، جيد ... ولذلك فيوصف الدواء والشاي والعام والرجل وغير ذلك بالمعلوم ، وعكسه لديهم يقال له مْحَيْلِي .
في السنة الماضية كنت على موعد مع محاضرة في أحد المعاهد ، وكانت الغاية منها تشجيع الشباب على المبادرة في ميدان الانترنت . ولأني كنت أرمي إلى تنبيههم بأننا على أبواب التغيير طرحت عليهم مثالا قريب إلى أذهانهم ، قريب إلى نفسي .

قبل خمسة عقود كانت مدينة العيون قرية صغيرة جدا . سكانها قليلون ، وأغلب الصحراويين كانوا يستنكفون السكن في تلك السجون الضيقة – يقصدون المنازل - ...



-     
كيف نترك البادية المترامية الأطراف ، شاسعة لا يحدها بصر ، ونسكن بيوتا ضيقة كالأقفاص ، مظلمة كالقبور ...


في ذلك الوقت كان هناك فتى نشيط يدعى "محمدا" ، يعمل بلا كلل ولا ملل . لقد كان ذلك الفتى عمي المحبوب الذي ناهز السبعين عاما . إذا رأيت جِدّه حسبته لا يمزح أبدا ، وإذا رأيت مزاحه مع الصغار والكبار لم تفهم كيف يمكن أن يكون هو نفسه من أهم أهل الحل والعقد في القبيلة . إلى عهد قريب كان يأمر أبناءه بالجلوس على الفراش فيجرهم ، ويأتي دورهم فيجلس ليجروه .

ورغم احترامي الشديد له ، كان يتعمد أن يضعني في مواقف محرجة .  أفهم جيدا لم يفعل ذلك ، لأنني صرت أفعلها مع أبني . يعجبني كثيرا أن أضعه في مأزق لأرى كيف يخرج منه بذكاء وعبارات لطيفة وأسلوب مرن .


لعل الناس جميعا يحبون أعمامهم ، غير أني أزعم أن "محمدا" ليس كبقية الأعمام . فلقد كان ممتلئ حيوية ونشاطا ، وكريما لدرجة أنه كان يعول جَدِّيَ الأعمى ، وإخوته ومنهم أبي ، وأبناء إخوته بما فيهم أنا وإخوتي ..

حينما كان "محمد" يعود من غياب ، يفعل فعل المطر بعد الغياب ، وكان محبوه يستقبلونه كما يستقبلون المطر .
في تلك الفترة البعيدة ، أتى "محمد" فعلا لم يرق والده ولا المقربين . وصفوه بالحمق والخبل وإساءة التصرف . كان "يضيع ماله هباء في أمر لا يجدي" ... لقد ترك الصحراء الشاسعة وراح يشتري أراضي في تلك القرية الصغيرة آنذاك ، أراضٍ لا تزرع ولا تحصد ، ولا تلد ولا ترضع . ثم إنها "بحجم الكف" كما يقولون . نعم هي بمقاييس اليوم  كبيرة ، لكنك لو عدت خمسين عاما إلى الوراء  وعشت كما عاشوا لقلت كما قالوا ، ولكنت بجانب جدي الأعمى تؤيده ، ولن ألومك حينها ، لأنهم أهل بداوة وترحال ، ولن تجد في قاموس خبرتهم شيئا اسمه بناء المنازل والاستقرار . لكن ... لو قُدِّر لك أن تكون في صف محمد لكنت ذا نظر ثاقب ورأي حصيف .

فمن كان يتصور حينها أن الصحراء توشك أن تتغير جذريا ؟

من كان يتخيل أن تجتاح الـمَدَنِيّة الصحراء فإذا هي ليست كما يعرفها الآباء والأجداد ؟

ما أسهل أن أتحدث أنا وأنت الآن عن أهمية العقار في هذا الزمن ، لكن هناك تغيير يدق أبوابنا  وحاذر أن تنظر إلى الأمر بمنظار جدي: إنه عصر الأنترنت . توشك أن تعمنا موجة الأنترنت فتصير كثير من معاملاتنا عبرها . في السنوات الأخيرة ، لم يعد هناك حي في أي مدينة يخلو من مقاهي أنترنت ، ولا يجهل التعامل معها أصغر فرد من أفراد الجيل الجديد . وانخفضت تكاليفها حتى صارت المقاهي تغلق أبوابها بعد أن توفرت في كثير من المنازل والبيوت والمدراس والمؤسسات .

ثم إن المواقع المتخصصة في التجارة الإلكترونية صارت تتناسل وتتكاثر ، فضلا عن كثيرا من الخدمات العمومية التي صار بالإمكان الحصول عليها عبر الأنترنت ... أضف إلى ذلك أنني الأخير من بين أصدقائي وإخوتي الذي قرر الحصول على هاتف مرتبط بالانترنت ...

ألا يوحي كل ذلك بأننا على أعتاب تغيير هائل ، وأن عصر المعلوميات سيجتاح حياتنا بشكل لن يستوعبه آباؤنا ومنهم عمي "محمد" نفسه ؟


قبل سنتين ذهبت إلى مدينة السمارة لتسويق برنامج لدى شركتنا ، ولم لكن من عادتي أبدا أن أذهب إليها . بعد أسابيع مررت بمدينة العيون وجلست مع والدتي وجدتي وعمي.  أثناء الجلسة لم يفت عمي أن يقول :

ليس من عادتك يا بني أن تذهب إلى السمارة .

في منطق كبار السن عندنا ، حينما تسافر بهذا الشكل ، فهذا يعني أنك تبحث عن زوجة ... هو يعلم أنني متزوج لكننه حريص على إحراجي .

قلت له :

لقد أعددنا شيئا يوضع في جهاز ليحافظ على المعلومات .

نظرا إلي مليا ثم قال :

والله لا ندري هل هن معلومات أم ..... مـْحَيْلِيَّات ....

ليست هناك تعليقات: