17 يناير 2013

يوميات في الصحراء - الجزء الأول

هذه التدوينة بقلم السملالي لعروسي


تأملت سر تعلُّق المرء ببيئته فلم أستطع فك ذلك اللغز، فأنت لا تكاد ترى إنسانا يسير على هذه الأرض إلا وقد تعلق ببيئته أيّما تعلقٍ حتى شَبّه بعضهم تلك العلاقةَ بعلاقةِ الجنين بِرحِم أمّه، لكني أرى العلاقة أعمق والرابطة أوثق، فما الذي يَحمل إنسانا وُلد في المهجر على التعلّق بمكان لم يولَد فيه ولم يسكنه وربما لم يَرَه؟
لا أعزو ذلك إلا للفطرة، فهي القادرة على جعلِ الواحد منّا - وقد وُلد في بيئة صعبة خشنة - توّاقا إلى الرجوع، ولو رأى في غير أرضه من أطايب العيش وألوان المتعة ما رأى. وتشتد تلك الرابطة عند من تربى في البادية، فهو لا يستنشق من هوائها إلى أطيب ريح، ولا يحد بصره فيها شيء، ولا يذوق من طعامها –على قلته في أحايين كثيرة- إلا ما يُستلذ به. فيصبح في أرغد عيش ويظل في أهنأ بال، ويَبيت وكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها.
لم أكن من أولئك الذين وُلدوا في البادية وتَربَّو فيها، لكني رضعت حبها قبل الفِطام، فكنت أفرح إذا علمت أن أمّي ستأخذنا في نزهة إلى البادية المحيطة بمدينتنا الصغيرة، نقطف فيها بعض ما جادت به الأرض من زهر ونحفر عن بعض أنواع النباتات ونطارد ما طار من الحشرات، فلا ينقضي يومنا ذاك حتى نقضي أوطارنا من اللعب والركض والصراخ، فنعود إلى بيتنا وقد علَى وجوهَنا مزيجُ تعبٍ وبهجة.
اتخذنا مكانا قرب المدينة لننْصِب فيه خيمتنا وننقُل إليه ماشيتنا، ثم تكرر انتقالنا من مكان إلى مكان دون أن نبتعد عن أطراف المدينة حتى انتهينا إلى مكانٍ اتخذناه مُستقرّا، لبثنا فيه مدة تتعاقب علينا الفصول فلا يكون الربيع بأفضلَ من الخريف، ولا الشتاء بأسوأ من الصيف.
هلَّ علينا شهر رمضان في ذاك المكان وأعْيُنُنا معلقةٌ بالسّماء عسى أن يَمُنّ باريها بما يُغيث البلاد والعباد، فكنا نَرقُب تلك السُّحب تَمُر علينا وحوالَينا، نستبشر إنْ هي أقبلت ونأسف إنْ هي أدبرت أو مرت دون أن تَبُل الثَّرى بحِملِها، حتى شارفَ الشهر على الانقضاء وبدأت تَلُوح أفكارٌ بتتبّعِ مَواقِع القَطْر في مناطقَ ليست قريبة. لم يكن الأمر هيّنا، فرحلةٌ كهذه لا تَصلُح إلا في جماعة، ثم إننا لم نحترفْ رَعيَ الغنم من قبلُ، وهل تستحق بضعُ رؤوس من الغنم -أَلِفَت البيوتَ والبشر- كلَّ تلك المشقة؟ بدا وكأن أمي قد استحسنت الفكرة، فكان مما أنطقني الله به ما معناه: فليكن الأمر كذلك!
أمضينا باقي أيام الشهر نُعِد العُدة للرحلة حتى انشغلنا بها عن الاستمتاع بالعيد، حيث انطلقنا في اليوم الذي يليه لنلتحق بقريب لنا يشاركنا الوجهة والسبيل، بعد وصولنا لبثنا أياما معدودة نبيت كل ليلة في مكان مختلف ثم أجمع القوم على السير باتجاه الهدف لأن بيننا وبينه أرضا هي أسوأ مما نحن فيه. استيقظنا باكرا كعادة من يسكن البادية، ثم سرت أنا وآخرُ خلف غنمنا نحُثها على السَّير، فلم يكن في تلك الأرض التي نعبُرها ما يُسمِنها أو يغني من جوعها، حتى أني وقفت بجانب شجرة أتأملها فلم أر فيها ورقة خضراءَ ولا يابسة.
كانت السيارة التي تَحْمِل الزّادَ وتُقلّ باقيَ الأفرادِ تتقدمُنا مرة وتنحرفُ يمينا وشمالا مرة أخرى لتستكشف الطريق، وبعد ساعات من السير الحثيث رجع سائق السيارة ليخبرنا أننا اقتربنا من أرضٍ نبتَ فيها العشبُ. استبشرنا خيرا وحمَلْنَا على الغنم وقد بدَا على بعضها التعب، وما كدنا نقترب من المكان حتى أحَسَّت الغنم بريح العشب فسَابقَتْنا إليه. تنفسنا الصعداء ونحن ننظر من بعيدٍ إلى قرارة (وهو المكانُ المنخفضُ يجتمع فيه الماء) قد اخضرّ شجرُها وهي تستقبلُ طلائع الأغنامِ الجائعةِ المتعبة.
انحرفنا عن مسار الغنم لنلتحق ببقية الأفراد وقد أشعلوا نارا ووضعوا من السيارة ما يلزمُ لإعداد جلسة شايٍ بنكهة النصرِ، لكنا لم نكد ننتشي بطعم كؤوسِنا حتى راعنا منظرُ الغنمِ وهي تركض خارجة من القرارة كأنّ بها جِنة، استغربنا لصنيعها، وبعد لحظات اكتشفنا أن أسرابا هائلة من البعوض استوطنت تلك القرارة وكُلَّ قرارةٍ كثيفةٍ دافئة، وما كانت لتَدَعَ كائنا يُشاركُها العشب دون أن تغْرِز خراطيمها في جلدِه فتُخَيّره بين العشب ودمه.
وللحديث بقية ...

ليست هناك تعليقات: