19 يناير 2013

يوميات في الصحراء - الجزء الثالث


هذه التدوينة بقلم السملالي لعروسي

حُبِست أنفاسنا ونحن نقتفي أثر الغنم بالسيارة، وبعد مدة وجيزة ظهرت لنا آثار القطيع قد اجتازت كثيبا مرتفِعا. زاد ترددُ دقاتِ القلوبِ وانخفضَ معه ترددُ الأنفاسِ في محاولة للاجتياز، فتوقف ابن عمي يعد السيارة للمهمة الصعبة... ثم انطلق، فسارت السيارة بسرعة باتجاه الكثيب حتى وصلته فتناقصت سرعتها حتى وصلت القمة، ثم توقفت. "هل علِقنا؟ لا أصدق".
انتفض السائق في حركة عنيفة محاولا رد السيارة على أثرها بعد أن فشلت في العبور، فزمجر محركها من فرط المجهود الذي يبذله ثم بدأت تتحرك إلى الخلف رويدا رويدا حتى انسحبت من الرمال وقد خلفت أخاديد على الكثيب. غير أن ابن عمي بدا عازما على العبور. فهيأ السيارة للسير قدما ثم أقدم في سرعة أكبر باتجاه الكثيب وما ان لامست الرمال عجلات السيارة حتى بدأت في امتصاص قوتها شيئا فشيئا حتى أسكنتها... حاول ردها مرة أخرى لكنها حرَنَت هذه المرة.
نزلنا من السيارة العالقة في الرمال وقد بدا على السائق آثار الحَنَق، حاولنا إزاحة الرمال من حول العجلات ووضعنا ما تيسر لنا من مواد صلبة أمامها كما وضعنا عن السيارة بعضَ حِمْلها في صراع مع الوقت، فقد شارفت الشمس على المغيب ولم يحمل أبي وعمي زادا يقتاتون به، لكن الحقيقة بدأت تظهر شيئا فشيئا، لن تستطيع السيارة الحراك بعد هذا إلا إذا جاءت سيارة أخرى لتسحبها وهو ما لن يحدث هذه الليلة أبدا. وبعد محاولات يائسة قرر ابن عمي اقتفاء الأثر مشيا على الأقدام، لكنه لم يحمل مع ماءا ولا أي شيء، فكل همه أن يريحهم من السهر في حراسة الغنم بعد مسير يوم كامل.
 بقيت رفقة أمي عند السيارة العالقة لا ندري شيئا عن القوم، كما غادَرَنا ابن عمي ونحن لا ندري إن كان سيستطيع العثور على بُغْيتة. تفقدنا محتوى السيارة فاستخرجنا من بين قضبانٍ حديديةٍ أطولَهُم وضممتُه إلى قطعةِ ثوبٍ كبيرةٍ مشكلا بها عَلَما ثم توجهت صوب أكبر كثيب من الكثبان المحيطة بنا، صعدت متثاقلا إلى أن بلغت القمة فغرست فيها العلم للدلالة على مكاننا، وعندما نزلت والتفت إلى العلم بدا وكأن حجمه تضاءل كثيرا بسبب ارتفاعه عن سطح الأرض. عندما حَل الليل بقينا مدة نتجاذبُ أطراف الحديث لنسلّي أنفسنا، ونتأملُ فيما نمر به حتى قُلتُ لأمي مازحا: "لو لم نستفد من هذه الحادثة إلا قصة نرويها".
في الصباح الباكر سمعنا صوت محرك سيارة، وبعد مدة برزت من خلف الكثيب -الذي يعلوه العلم- سيارة ركبها رجلان يرافقهما ابن عمي، فطمأننا على آبائنا. تقدمت سيارتهم لتجتاز المكان الذي علقنا فيه بيسر إذ أنها كانت فارغة، فربطوا مؤخرها بطرف حبل غليظ وربطوا الطرف الآخر بمُقَدَّم سيارتنا وشرعوا في جر السيارة حتى خرجت من الرمال ثم أعدنا إليها متاعنا. سارت المركبتان سويا حتى خرجتا من الكثبان، فالتحقنا بأبي وعمي الذين باتا في العراء بلا غطاء ولا ماء. لكنهما في الصباح أشعلا نارا دَلَّ دخانُها عليْهِما.
يؤسفني أني لا أحفظ من تراث مجتمعي شيئا، لكني سمعت قصة أرى المقام مناسبا لذكرها، وهي أن رجلا شارف على الموت وكان له مال لا يرثه فيه إلا ابن واحد فأوصاه وصية مفادها "كل أطيب الطعام، وافترش أوثر الفراش!". فلما مات الرجل راح الابن يُنفق من المال بإسراف، يَنتَقي أسباب الرفاهية ويُحصّل لنفْسه أهنأَ العيش وأطيَبَه حتى كادَ مالُه ينفد، فتفَطَّن لنفسه وقال: لعل لوصية أبي معنىً لم أَفْقَهه. فسألَ منْ يتوسمُ فيه الحكمةَ فأخبرهُ أنّ المعنى هو أن تكد في كَسْبك، حتى إذا ما احتجت للطعام ذُقت له طعما، وإذا ما نِمت وجدت راحة في نومك. ولعل هذا ما يجعل سكان البادية يعيشون بنفس طيبية، فما يجدونه من الكد والمشقة في تحصيل معاشهم هو الذي يجعلهم يتذوقون للحياة طعما.

ليست هناك تعليقات: