24 يناير 2013

الشدائد مصنع الرجال


أتى إلى مدينة طانطان لتمضية العطلة الصيفية مع عائلته قادمين من مدينة العيون . ففي الصيف يتقاطر سكان المدن المجاورة هربا من قيظ الصيف ، ورغبة في الترويح عن النفس بعد عام من العمل والدراسة .
تعرفت عليه لكثرة ما قابلته في طريق المسجد ذهابا وإيابا ، ثم اجتمعنا في وليمة عرس لأحد الجيران. المظاهر خداعة
، هدوء طبعه لا ينبئ عن رزانة عقله وكياسته . كان في منتصف العشرينات ، ممتلئ الجسم معتدل القامة .
انصرفنا إلى حال سبيلنا في تلك الليلة متأخرين ، لكنني وقفت وإياه في ذلك الجو الهادئ مع شاب ثالث من الجيران . ولأنهما من سكان الجنوب فأني طرحت عليهما سؤالي المعتاد  :
-      لماذا تقل فينا المبادرة نحن بنو الصحراء ؟ ولماذا نرى بني المدن الشمالية يكدحون في كل الميادين ؟
أجابني بدون تردد :
-      أرى أنه من الصعب جدا على الكثير من الصحروايين العمل في بعض المجالات ماداموا قرب عائلاتهم ومعارفهم . لا شك أن العمل شيء مشرف ، ولكن هل يقبل شاب من الصحراء أن يعمل في عربة يجرها حمار صباحا ومساء على مرأى من أقاربه ؟ ... أشك في ذلك . نعم ، قد يفعلها لو تغرب في مدينة أخرى ، بل قد يقبل بعمل مهين تماما كما يحصل لشبابنا الذين يأتوننا صيفا من أوروبا بسياراتهم الجميلة . إن حجم المصاعب والإهانة التي يتلقاها كثير منهم هناك ليس بالشيء اليسير ، لكن نشوة الرجوع في مظهر الظافر في فصل الصيف تجعلهم يتحملون ما لن يتحملوه قرب العائلة والأصدقاء.
ثم أضاف :
-      في سنة من السنوات ، اتصل بي أحد أقاربنا من مدينة الدار البيضاء ليخبرني بأنه يتوجب علي وصديقي القدوم إليه، ليتوسط لنا عند أحد المشغلين . انطلقنا ومعنا مال قليل يكفينا لتدبير أمورنا ريثما نحصل على راتبنا الأول الذي كنا نحلم به. أحيانا ، بل في أغلب الأحيان لا تتحق الأحلام ، فقد قضينا عشرين يوما في انتظار الشغل المزعوم ، ونفد ما معنا من مال حتى لم يتبق إلا ثلاثة عشر درهما ( أقل من دولارين ) . كان ذلك المأزق صعبا ، لكن ما زاده صعوبة أن الوسيط أخبرنا في ذلك الوقت الحرج أن لا أمل لنا في الحصول على العمل . كان الخبر كالصاعقة ، لأن ذلك يعني ضياعنا في مدينة كبيرة بعيدة عن أهلنا وليس معنا ما يكفي لوجبة واحدة . لكن الذي أثار غضبي وحفيظتي هو تصرف صديقي الذي انهار وجلس باكيا على الأرض ، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أصفعه على خده وأصرخ في :
-      لما تبكي كالنساء ؟
بعد أن هدأ صديقي ، اقترح علي أن نستغل ما معنا من نقود للاتصال بأهلنا لكي يرسلوا لنا ما نستطيع به ركوب أول حافلة ، لكنني قلت له :
-      والله لا أسأل أبي مالا ولا مساعدة ، ولو سألته إياها لأرسلها إلي . لكنني لا أريد مساعدة تجعلني أسقط من عينه بعدها .
جلسنا لحظات نفكر . نظرت إلى المستشفى الكبير الذي كان أمامنا ، والذي امتلأت ساحته الواسعة بالسيارات ، ثم طلبت من صديقي أن يعطيني ما تبقى معه من دريهمات ، فاشتريت صافرة صغيرة بدرهمين ونصف وقبعة. ألقينا بأنفسنا وسط ذلك البحر من السيارات ، ورحنا ننظم دخولها وخروجها وأماكن وقوفها ، ونتلقى دريهمات معدودة من أصحابها.
حينما حل المساء ، كنا قد جمعنا أزيد من 650 درهما ( قرابة 80 دولارا ) ، أكلنا ما نشتهي ، وعدنا إلى مدينتنا العيون بعد هذه التجربة أكثر نضجا . ولما علم أبي بما حصل أكد ما كنت أتوقعه قائلا :
-      لو طلبت مساعدتي وأنت رجل مثلي تقوى على العمل لسقطت من عيني .. لكنك نجحت .

ليست هناك تعليقات: