09 يناير 2013

كل دار فيها "كيدار"




ذات أصيل من آصال رمضان الأخير ، دعيت لتناول الإفطار في منزل أحد أصهاري . بمجرد دخولي غمرني دفء عجيب ، "الطبلة" كانت على أهبة الاستعداد ،و"جيرة" من لبن الغنم الأثير لدي ،  فضلا عن جدي صغير مشوي محاط بشتى أنواع المأكولات وأطيبها ... ورائحة "تيدكت" المميزة تعم أرجاء "المصرية" الواسعة ...
كنا أربعة ، ولعلي كنت أصغرهم سنا ... كان معنا شيخ كبير في السن ناهز الثمانين عاما ، وكان ذا رأي حصيف ، قليل الكلام ، أمضى سنين طويلة رئيسا لإحدى البلديات . لا ينبئك مظهره المتواضع بأنه يمكن أن يكون قطب الرحى وأهم عنصر في تلك البلدية ، ولكنه كان كذلك ...
أما الشخص الثاني فهو صهري الضاحك أبدا ، الموظف البسيط أبدا ، والثالث هو أحد أقربائه الذي تعرفت عليه حديثا .
كان يكبرني بسنتين ،شديد بياض الثياب ، شديد بياض البشرة ، يعتني بمظهره لدرجة كبيرة ، وأول ما كان يفعله إذا هم بالجلوس ، ينزع دراعته اللماعة البيضاء ، ثم يعلقها على الباب أو على نافدة مفتوحة حتى لايفسد بهاؤها وجمالها ... براعته في إعداد الشاي لا تخطؤها العين ، وكان إذا تحدث بلهجته الحسانية الأصيلة لم تشبها شائبة ، وإن بدا لي في ذلك نوع من التكلف ، علمت في ما بعد بأنه قدم من "تندوف" ، وأنه فقد والديه ، وبلا أخ أو أخت ، إن شئت قلت بأنه "مقطوع من شجرة" ....
لا أدرى كيف سار الحديث ، ولكننا وجدنا أنفسنا في لحظة من اللحظات نتحدث عن عمال وولاة المدن الجنوبية السابقين والحاضرين  ، وما قدموه للمدن الجنوبية وأهلها ، لكنني صدمت بطريقة تفكير ذلك الشخص ال "المقطوع من شجرة" ...
كان يذكر بكل فخر أحد العمال الذي كان يكرم الناس بالعطايا إذا أتوه ، وأنه كان يفعل ما لا يفعله غيره ،  يعد الولائم الباذخة فيدعو الناس ليأكلوا بأيديهم و"كرعيهم" .... لم أفهم مقصد الرجل أولا ، ولكنني لما ذكرت عاملا من العمال الذي جعل أحد المدن الجنوبية مدينة راقية  ، واهتم ببنيتها التحتية ، انبرى يذمه ويتنقص منه :
-         والله ما صنع شيئا . العامل الحقيقي هو الذي يعطي
-         قلت له : تقصد بقعة أرضية ؟
-         البقع وغيرها
-         وماذا تفعل ببقعة أرضية إذا حصلت عليها ؟
-         أبيعها وآكل ثمنها
-         فماذا يبقى لك إذن
-         وهل سأبقى أنا حتى أتركها لتبقى ، الناس تريد شيئا تنفقه ، وتحب الشخص الكريم ، والذي لا يعطي لن يأتيه أحد ، ولن يهتم به أحد .
أخذنا ننظر إليه بتعجب ، فسأله صهري :
-         إذن فلا قيمة في نظرك لمن لا يعطي الناس ، ولو كان يهتم بالمدينة ؟
-         المدينة ؟ ما لي وللمدينة ؟ وهل هي مدينتي فآخذها معي ...؟
كنت أهم بمناقشته ، لكنه بدا لي حينها مقطوعا من الغابة كلها ، وسكت .
علمت أنه  يحصل على "كارطية" ، ولكن بالمنطق الذي كان يفكر به ، بيَّن أن مسارها واضح ، وأنه شخص مستهلك بامتياز . جُلُّ أوقاته خلف "الطبلة" ، تارة في هذا المنزل ، وتارة أخرى في ذاك . ولا ينهض من نومه إلا  قبيل الظهر ، وإذا قام استوقفته المرآة .
من أتحدث عنه ليس حالة فريدة في مجتمعنا ، بل أكاد أجزم أنك أيها القارئ تعرف شخصا من ذلك الصنف ...
قال لي "سيداتي" صديقي ذات يوم :
-         كنت أنصح أخي ذات يوم بأن يعدل سيرته ، ويسير في الطريق الصحيح ، لكنه تركني حتى أكملت حديثي فقال:
-         شوف يا سيداتي ، كل دار فيها "كيدار" ، وآنا كيدار هاذي الدار ...

ليست هناك تعليقات: