ذات أصيل
من آصال رمضان الأخير ، دعيت لتناول الإفطار في منزل أحد أصهاري . بمجرد دخولي
غمرني دفء عجيب ، "الطبلة" كانت على أهبة الاستعداد ،و"جيرة"
من لبن الغنم الأثير لدي ، فضلا عن جدي صغير مشوي محاط بشتى أنواع المأكولات
وأطيبها ... ورائحة "تيدكت" المميزة تعم أرجاء "المصرية"
الواسعة ...
كنا
أربعة ، ولعلي كنت أصغرهم سنا ... كان معنا شيخ كبير في السن ناهز الثمانين عاما ،
وكان ذا رأي حصيف ، قليل الكلام ، أمضى سنين طويلة رئيسا لإحدى البلديات . لا
ينبئك مظهره المتواضع بأنه يمكن أن يكون قطب الرحى وأهم عنصر في تلك البلدية ،
ولكنه كان كذلك ...
أما
الشخص الثاني فهو صهري الضاحك أبدا ، الموظف البسيط أبدا ، والثالث هو أحد أقربائه
الذي تعرفت عليه حديثا .
كان
يكبرني بسنتين ،شديد بياض الثياب ، شديد بياض البشرة ، يعتني بمظهره لدرجة كبيرة ،
وأول ما كان يفعله إذا هم بالجلوس ، ينزع دراعته اللماعة البيضاء ، ثم يعلقها على
الباب أو على نافدة مفتوحة حتى لايفسد بهاؤها وجمالها ... براعته في إعداد الشاي
لا تخطؤها العين ، وكان إذا تحدث بلهجته الحسانية الأصيلة لم تشبها شائبة ، وإن
بدا لي في ذلك نوع من التكلف ، علمت في ما بعد بأنه قدم من "تندوف" ،
وأنه فقد والديه ، وبلا أخ أو أخت ، إن شئت قلت بأنه "مقطوع من شجرة"
....
لا أدرى
كيف سار الحديث ، ولكننا وجدنا أنفسنا في لحظة من اللحظات نتحدث عن عمال وولاة
المدن الجنوبية السابقين والحاضرين ، وما قدموه للمدن الجنوبية وأهلها ،
لكنني صدمت بطريقة تفكير ذلك الشخص ال "المقطوع من شجرة" ...
كان يذكر
بكل فخر أحد العمال الذي كان يكرم الناس بالعطايا إذا أتوه ، وأنه كان يفعل ما لا
يفعله غيره ، يعد الولائم الباذخة فيدعو الناس ليأكلوا بأيديهم
و"كرعيهم" .... لم أفهم مقصد الرجل أولا ، ولكنني لما ذكرت عاملا من
العمال الذي جعل أحد المدن الجنوبية مدينة راقية ، واهتم ببنيتها التحتية ،
انبرى يذمه ويتنقص منه :
-
والله ما صنع شيئا . العامل الحقيقي هو الذي يعطي
-
قلت له : تقصد بقعة أرضية ؟
-
البقع وغيرها
-
وماذا تفعل ببقعة أرضية إذا حصلت عليها ؟
-
أبيعها وآكل ثمنها
-
فماذا يبقى لك إذن
-
وهل سأبقى أنا حتى أتركها لتبقى ، الناس تريد شيئا تنفقه ، وتحب الشخص الكريم ،
والذي لا يعطي لن يأتيه أحد ، ولن يهتم به أحد .
أخذنا
ننظر إليه بتعجب ، فسأله صهري :
-
إذن فلا قيمة في نظرك لمن لا يعطي الناس ، ولو كان يهتم بالمدينة ؟
-
المدينة ؟ ما لي وللمدينة ؟ وهل هي مدينتي فآخذها معي ...؟
كنت أهم
بمناقشته ، لكنه بدا لي حينها مقطوعا من الغابة كلها ، وسكت .
علمت
أنه يحصل على "كارطية" ، ولكن بالمنطق الذي كان يفكر به ، بيَّن
أن مسارها واضح ، وأنه شخص مستهلك بامتياز . جُلُّ أوقاته خلف "الطبلة"
، تارة في هذا المنزل ، وتارة أخرى في ذاك . ولا ينهض من نومه إلا قبيل
الظهر ، وإذا قام استوقفته المرآة .
من أتحدث
عنه ليس حالة فريدة في مجتمعنا ، بل أكاد أجزم أنك أيها القارئ تعرف شخصا من ذلك
الصنف ...
قال لي
"سيداتي" صديقي ذات يوم :
-
كنت أنصح أخي ذات يوم بأن يعدل سيرته ، ويسير في الطريق الصحيح ، لكنه تركني حتى
أكملت حديثي فقال:
-
شوف يا سيداتي ، كل دار فيها "كيدار" ، وآنا كيدار هاذي الدار ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق