04 يناير 2013

وقتُنا، كنزُنا


قلّما اتخذت قرارا للكتابة في صفحات الإنترنت بهذا الشكل، وإن شئتَ الدقة في القول، فلم يسبق لي قطّ أن سودت صفحة في الشبكة العنكبوتية بتدوينة ولا مقال. ليس ذلك لبخلي بما لدي، فلا أعتقد أن الأمر سيضِيق بمتصفحي الشبكة حتى يحتاجوا لما سيجود به واحد من بين ملايين الأفراد، غير أني لما راجعت نفسي في السبب الحقيقي وراء إحجامي عن الإقدام على مثل هذا الأمر تبين لي أن لدي شعورا دفينا بأن محتوى الإنترنت محاط بشبه هالة من القداسة، إذ لا ينبغي لأحد العبث به ولا انتقاصه، وعلى من يريد خوض غماره أن يحرص كل الحرص على تقديم ما هو مفيد، وسأضرب لذلك مثلا:
كيف بك إن علا شخصٌ ما منصة بين يدي جمهور، ثم بدأ يتفوّه بما لا فائدة منه؟ ألا ترى معي أن هذا الأمر يُعد انتقاصا من شأن أولئك المستمعين؟ اللهم بلى.
لا يفوتني أن أشكر صاحب المدونة إذ عرض علي المشاركة في هذا المشروع، وأشكره مرة أخرى لأنه وضع منهجية للكتابة. لقد وفّر علي الكثير من الجهد، فلست من أولئك الذين يحسنون ترتيب أفكارهم وضبطها وعرضها في نسق منسجم.
اسمي السملالي لعروسي، من مواليد صيف 1985، نشأت -كغيري ممن يقطنون مدينة بوجدور جنوبي المغرب- في وسط بسيط وظروف عيش أبسط، وهو ما أحمد الله عليه، فلست من محبي العيش في الصخب. تدرجت في تعليمي من الأولي مرورا بالابتدائي ثم الإعدادي فالثانوي دون أن يكون في تلك المراحل ما يميزني عن أقراني. بعد حصولي على شهادة الباكلوريا العلمية انتقلت إلى مدينة العيون كبرى حواضر تلك الجهة، هناك حيث درست سنتين في معهد خاص تُوجت بحمد الله بحصولي على شهادة في تسيير الشبكات المعلوماتية. بعدها مباشرة عدت أدراجي إلى حيث نشأتي لأبدأ غير آبه مرحلة جديدة من حياتي: مرحلة البطالة.
أمضيت مدة تتقاذفني فيها أمواج الفراغ.. كأني أمشي في أرض فلاة على غير هدى، حاملا على ظهري كيسا مُلئ كنزا غير أنه مثقوب. أسيرُ ولا يزيدني مرور الوقت إلا نقصا مما معي... لم يكن ذلك الكنز ذهبا ولا فضة، لقد كان أغلى من ذلك بكثير، لقد كان وقتيَ الذي يوشك أن ينفد مني دون أن أُسخّره فيما ينفعني.
لقد جُبل الإنسان على طلب المزيد، فلا يهنأ له بال إذا رأى من يفضُله بشيء، ثم إنْ قُدّر له أن يحظى بما أراد فلا يلبث حتى يطلب الأكثر. لكني لا أرى السوء في جنوح المرء إلى الأفضل بقدر ما أراه في ازدراء النّعم الناتج عن ملازمة التطلع للمزيد. هذا شأن من يشكو من البطالة ولا يحس بما في يده من النعم، ولا يخفى على القارئ اللبيب حديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ".
أمضيت ثلاث سنوات ونيف دون أن يكون لي نشاط قار، ثم منّ الله علي فيما بعد أن حصلت على وظيفة في القطاع العام. خلال ذلك، كنت بين الفينة والأخرى أستكشف عالم البرمجة المعلوماتية، لقد كان لي شغف بها منذ سنوات الدراسة الثانوية، إلا أن الأمر لم يعد كونه هواية.
لا زلت أذكر أول مرة تعرفت فيها على البرمجة، كان أخي –صاحب المدونة- مولعا بها، ولِولعه كان يُحْضر دروسا من مقهى الإنترنت في قرص مرن سعته 1.44 Mb ليضعها في حاسوب عتيق، توفر لدينا آنذاك، يعمل بنظام تشغيل Windows 98، لم يتسنى لنا التعرف على البرمجة إلا عن طريق VBA أو Visual Basic for Applications، فذاكرة الحاسوب لم تتجاوز 600 Mb، لكن هذا لم يكن ليصدنا عن استكشاف ذلك العالم الشيق الغريب. أمضيت بعدها مدة أُقبل فيها على البرمجة مرة وأُدبر عنها مرات، إلى أن التحقت بالمعهد الذي درست فيه حيث سنحت لي الفرصة للتعرف على لغات برمجة أخرى من قبيل لغة البرمجة C، لكن البرمجة لم تكن اهتمامي الوحيد، فكنت مرة أنجرف مع أنظمة إدارة المحتوى ومرة مع برامج التصميم ثلاثية الأبعاد ومرة أخرى مع قواعد البيانات... لكني والحال كذلك لم أتجاوز عتبة الثقافة العامة في تلك الميادين.
اتُّفِق أن انخرط أخي في إعداد برنامج بلغة البرمجة VBA، رأيت ما كابده من الصعاب وكيف أن الأمر قد يكون أيسر بكثير لو استثمر المرء ما تيسر له من موارد، فقد كانت مسألة ترخيص البرامج المستعملة تشكل عائقا بالنسبة لنا. أعلم أن الأمر قد يبدو غريبا، فقد يقول قائل: "ولماذا الحديث عن الترخيص؟ لا يكاد يخلو حاسوب من برامج غير مرخصة". فأقول أن المقام لا يتسع لمثل هذا الجدل، لكن الثابت لدي أن الإحجام عن الفعل أيسر من الإقلاع عنه، ثم إن كثيرا من الموارد صارت متيسرة الآن، فما المانع من استعمالها عوضا عما فيه شبهة؟ "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
قلت لنفسي بعد أن رأيت ما حققه أخي بتلك الموارد المحدودة: لا شك أن بإمكاننا فعل الأفضل بشكل أيسر، لكن من أين أبدأ؟ فمعرفتي بالبرمجة لم تؤهلني بعدُ لإنتاج برامج قد يُعتمد عليها. ثم خطرَ لي أن أنخرط مع الشركة التي أنشأها أخي لأعرّفهم بلغة البرمجة التي كنت أعرف أبجدياتها، Visual Basic .Net، عسى أن يستعيضوا بها عما لديهم، وتكون تجربة لي كي أنمّي فيها خبرتي المتواضعة؛ ولما لا؟ قد يتطور الأمر إلى أن أصير مبرمجا فأُعدّ برامج تتكلف الشركة ذاتها بتسويقها؟ وكذلك كان، فقد بدأت معهم في أنشاء برنامج سمّوه "الكاشف"، كان برنامج قواعد بيانات بامتياز، وصلنا بعد أيام إلى نتيجة أرضتنا في ذلك الحين... لكنه عالم البرمجة والتقنية، لا يمضي وقت يسير حتى يكتشف المرء أنه كان يقوم بالعمل بطريقة خطأ كلفته الكثير دون أن يشعر. لكن الربح الأكبر الذي كان يزيد في كل محاولة هو ثقتي بقدرتي وإحساسي بمنة الله علي أن يسّر لي هذا الأمر.
بعد محاولات غير جادة في برامج مختلفة، اتفقت مع الشركة على إعادة إنشاء برنامج كان لديهم، لكن هذه المرة بلغة البرمجة التي لا أعرف سواها، Visual Basic .NET. سافرت إلى حيث مقر الشركة لأطلع عن كثب على ما لديهم، وفي غضون أيام، تشكلت لدي صورة مكنتني من بناء الهيكل العام للبرنامج بطريقة تسمح بتطويره بشكل متناسق ومحكم، والسبب هو ما تعلمته مؤخرا: البرمجة الكائنية التوجه أو Object-oriented programming. رجعت إلى مدينتي فيما بعد عازما على مواصلة التطوير، فكنت أستغل أوقات فراغي في البرمجة، ثم أقوم بتجربة آخر التحديثات في إحدى مصالح مدينتي الصغيرة. كلفني التطوير وقتا زائدا بسبب بعض الالتزامات، لكن النتيجة كانت مشجعة في كل مرة، حتى أن مستخدمي البرنامج لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم من هذه الآلات الصغيرة (الحواسيب) التي صارت تنجز عملا بسرعة كبيرة جدا، في حين أنه كان يكلفهم الكثير من الوقت والجهد فيما مضى.



ليست هناك تعليقات: