كانت جدتنا تحكي لنا حكايات . أبطالها كانوا أحيانا رجالا ونساء من الصحراء ، وتارة أخرى مخلوقات أخرى تعيش فيها . تتفاوت حكايات جدتي بين التبسيط والتعقيد ، والإيجاز والتطويل . وكان مما حكته لنا حكاية محروگ بوه .
تلك الحكاية
سمعناها منها مرارا ، بل وسمعناها من آبائنا وأمهاتنا مرات عديدة أخرى. فما معنى محروگ بوه ؟
الترجمة
الحرفية لن تقودك إلى شيء ، لكن المعنى الذي أراه مناسبا لها هو "عديم
الأصل" ...
في الثقافة
الحسانية يعد هذا الوصف بشعا ، قد لا يفوقه بشاعة إلا الكفر . والصحراويون الأولون
– وبقاياهم من الآباء والأجداد – يمسكون كلامهم فلا يخرج إلا بمقدار ، وليس فيه ما
يخدش الحياء . لقد كانوا يختارون من العبارات ألطفها وأدلها على المراد ، ويبتعدون
عن كل كلمة سليمة لها إيحاءات أخرى . بل إن نقد الكلام والتعابير معروف حتى لدى
الصغار ، ويسمونه الشگارة.
( وليس الشكارة)... ويعد
اعتزازهم بالأصل مما لا يمكن التساهل فيه ، ولعلك تعلم بأنهم لا يقبلون منك نسبة
الشخص إلى أمه كـ"ابن فلانة" ، لأنها تعد إشارة إلى كونه ابن زنا . وإن
كنت مضطرا إلى تعريفه عن طريق أمه فلك أن تقول : "الذي أمه فلانة" .
ما المغزى
من هذه القصة ؟
لا شك أن
القصة تدعو إلى العمل ، وتنبذ الكسل بطريقة غير مباشرة . لكن ما لفت انتباهي هو
كيف يردد أجدادنا وآباؤنا قصة رجل يسب نفسه بأبشع صفة مقابل عدد من النوق ؟ ما
الذي يدعوهم إلى نشر هذه السلوك ؟
عند التأمل
يبدو لي أن هذه القصة تنسجم مع منهج حياتهم الذي كان قائما على الكدح والعمل ،
وعدم الركون إلى الأنساب خلافا لما قد نظن .إننا نلمس في أسلوب الصحراويين
نوع من الشدة تتناسب مع شدة اعتزازهم بأصولوهم ، وكأنهم يقولون : لا شك النعت
بانعدام الأصل إهانة بالغة للمرء ، لكن الأشد أن يكون عالة على الآخرين .
يغني عن ذلك
قول ألطف الخلق وأحكمهم صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي
بيده ، لأن يحمل أحدهم حبله فيحتطب على ظهره ، خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله
من فضله فيسأله أعطاه أو منعه .
قال الشاعر :
ليس الفتى
من يقول كان أبي إن الفتى من يقول ها أنذا
وكان الحجاج
بن يوسف الثقفي يسأل الرجل سؤالا معقدا يختبر به عقله :
- أعصامي أنت
أم عظامي ؟
عصامي يعني
بها أنك معتمد على نفسك ، وعظامي أي : أنك تتكئ على أجدادك وتفتخر بهم . وذات يوم
رأى رجلا أعجبه كلامه و هيأته ، فسأله ذلك السؤال ، فأجابه الرجل :
- بل عصامي
وعظامي .
وأعجب
الحجاج بجوابه . لكن تبين له بعد أيام أن الرجل ليس عاقلا كما كان يتصور ، فقال له
:
- لتخبرنني
بمن أوحى إليك بذلك الجواب أو أضرب عنقك .
فقال له
الرجل :
- أيها الأمير
، والله ما أدري ما عصامي ولا عظامي ، لكنني رجوت أن تعفو لي بإحداهما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق