04 فبراير 2013

علمني السالك ، وعلمتني فاطمة


في مطلع كل سنة دراسية جديدة ، أقابل فوجا جديدا من الطلاب ، لأبدأ معهم تجربة جديدة . عادة ، تبدأ السنة عندي بتحفيز الطلاب على بذل الجهد وتحطيم الصورة التي وضعوها لأنفسهم ، وأنهم خلال سنة  قادرون على تحقيق الكثير لو فعلوا الأسباب وحاولوا .
في العام الماضي كان يدرس لدي طالب متعثر جدا . كان يكبر زملاءه سنا وحجما ، لا يتحدث إلا بصعوبة . ولو تحدث ستجد صعوبة في فهم كلامه . وأسوأ من ذلك خطه الذي بلغ من الرداءة مبلغا ، لدرجة أن أمه المسكينة قالت لي ذات يوم :
-      لقد تعبت معه ، ولا أعرف حلا لمشكلته. خطه غير مقروء ، حتى أن من يقرأ لا يدري هل هو يكتب بالعربية أم بالفرنسية .
كنت أعلم من خلال خبرتي ومما قرأت من تجارب السابقين بأن الثقة بالنفس تفعل فعل السحر في الطلاب. ومن أشهر ما يستدل به في هذا الشأن تجربة جرت في سبعينيات القرن الماضي بجامعة هارفرد . حيث قام دكتور باختبار تشخيصي في بداية السنة ليفيء الطلاب إلى أربعة مجموعات : A و B و C و D .
الغريب في القصة هو أن الدكتور تعمد أن يقلب تصانيف الطلاب رأسا على عقب . فالمتأخرون حصلوا على الرتب الأولى ، بينما وجد المتفوقون أنفسهم في ذيل اللائحة .
ترى ، كيف كان وقع الأمر على الطلاب ؟ كان الطالب المتعثر الذي حصل تصنيف جيد يقول : ماذا ؟ من الأوائل ؟ لقد تطلب الأمر أن أصل إلى الجامعة ليظهر مستواي الحقيقي ، وأنا الذي كدت أعتقد أنني طالب متعثر ..
أما المتفوق الذي حصل على تصنيف سيء فكان يقول : ما معنى ما يحصل؟ أبعد كل هذا المشوار الطويل من النجاحات تكون هذه هي النتيجة ؟ هذا يعني أن كل نجاحاتي كانت مزيفة ...
بعد ستة أشهر تم قياس أداء الطلاب وكانت النتيجة مبهرة : نسبة عالية تعاطت مع التصنيف الجديد كأنه حقيقة واقعة ، بل هي كذلك في نظرهم . ما أكثر الطلاب المتعثرين الذين كانت نتائجهم مذهلة ، وما أكثر الطلاب المتفوقين الذين انحدر مستواهم ، حتى أن بعضهم أصيب بأزمة نفسية ثم انقطع عن الدراسة.
كشف الدكتور بعد ستة أشهر عن تجربته المثيرة ، ليكشف حقيقة أن الثقة بالنفس تأتي بالعجب العجاب .وأما نهاية القصة ، فإن الدكتور أودع السجن بعد أن تسبب في تدمير مستقبل العديد من الطلاب الذين توقفوا عن الدراسة بسببه.
وأعود بك قارئي العزيز إلى قسمي . كان طلابي أذكياء ، وتجلى ذكاؤهم الذي أعني في كونهم يفهمون ما أرمي إليه ويساعدونني فيه. كان ذلك الطالب المتعثر إذا وُفِّق لإجابة صحيحة أو حتى نصف صحيحة أثنيت عليه ثناء عاطرا. ورغم ما يكون بين الطلاب عادة من تنافس على نيل الثناء من أستاذهم ، إلا أنهم كانوا يشاركونني الاحتفال بإنجازات ذلك الطالب المسكين، حتى أن الأمر كان يخرج عن السيطرة والتخطيط فتهتز القاعة بالتصفيق له مع ما في ذلك من إزعاج لي ولمن في القاعات المجاورة . كانوا يفعلون ذلك دون اتفاق مسبق بين وبينهم ، وكان من السهل أن ترى على محياه البريء التأثر البالغ والنشوة العارمة ، يكاد وجهه يضيء بِشرا وابتهاجا. كيف لا وهو الذي اعتاد طيلة سنوات دراسته المديدة أن يعيش في الظل وعلى الهامش .
هذا ما كان يفعله الطلاب وهو يعلمون أن أجوبته غالبا ما تكون ناقصة ، لكنهم صدموا لما عجز القسم بأكمله عن الإجابة في مرات عديدة ، وكان الوحيد الذي يرفع إصبعه على استحياء ، ثم كان يوفق في الإجابة . لو فعلها مرة أو اثنتين لكانت محض مصادفة ، لكنها تكررت معه .
زادت جرأته ليفعل ما لم يفعله في حياته : كأن يجود القرآن أمام الجميع ، وأن يشترك في الخطابة مع بقية الطلاب بغض النظر عن قصر خطبته . لقد أثر في نفسي ذلك الطالب كثيرا ، وعلمني درسا من دروس الحياة التي لا تنسى.
من بين القصص التي أكررها على مسامع الطلاب وأشحذ هممهم بها قصة طالب أمضى سنتين في طلب العلم ثم يئس وقرر العودة إلى بلده . وفي منتصف الطريق استراح تحت شجرة ظليلة . استرعت انتباهه نملة تحمل حبة قمح على صخرة شديدة الانحدار . فشلت مرة واثنتين ، وعشرا وعشرين وثلاثين وأربعين . لم تتجاوز المنحدر إلا في المحاولة الثانية والخمسين . دون إضاعة المزيد من الوقت في التفكير ، التقط الطالب الإشارة من معلمته ، وعاد ليكمل مسيرته التي كللت بالنجاح حيث صار عالما .
وقبل عامين ، وبعد مرور شهرين على بداية ذلك الموسم الدراسي ، توقفت مع طلابي وقفة محاسبة وتقييم ، فقلت لهم :
-      لقد سلكت معكم مسلكا متحضرا خلال الشهرين الماضيين ، وعاملتكم كما يعامل الناضجون ، والآن النتيجة هي أنكم لم تحفظوا الأجزاء المقررة من القرآن ، فما هو الحل ؟
انقسم الطلاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية . القسم الأول ضم الطلاب المتعثرين ضخام الجثة ، أقوياء البنية الذين قالوا :
_ "عَصِّينا ، ويلا ما حفضنا  حَمَّلنا" .
الفئة الثانية ضمت مخلوقات متعثرة رقيقة . قالوا :
-      سامحنا واعف عنا ، وإذا لم نحفظ مستقبلا عاقبنا بكتابة الجزء المقرر مئتي مرة .
اما الفئة الثالثة فضمت المتفوقين - وكلهم إناث – فقالت قائدتهن واسمها فاطمة :
-      لسنا حميرا لنضرب بالعصا ، إننا بشر . ولكن عاملنا كما يعامل الناضجون .
قلت لها :
-      أولم أفعل ذلك خلال ستين يوما ؟
فردت علي :
-      ولو كان مئة مرة ... حاول ثم حاول ... ألو تحْكِ لنا قصة النملة ؟؟؟
صدمت ولم أجد جوابا ، فقلت لها :
-      غلبتني ....

ليست هناك تعليقات: